مجنون ليلى
|
لست أدري ما الذي يعجب
الكثيرين في ذلك المعتوه قيس بن الملوح
الشهير بالمجنون!.
صحيح أنه وقف علي محطة أوتوبيس الحب ألف
ليلة وليلة كأي راكب ينتظر أتوبيس شبرا,
ولكن الفرق بينه وبين راكب أوتوبيس شبرا
أن المجنون كان يتعمد أن يفوته أوتوبيس
ليلي ألف مرة ومرة, فهو لم يبذل أي جهد
ليصل إلي أمانيه, وهو قد اكتفي
بالصويت واللطم في كل مرة يفوته فيها
الأوتوبيس, فكان يسرح في الصحراء
ليبكي وينوح ويشكو حبه لطوب الأرض,
وهو بكلامه عنها في مجتمع محافظ صارم
التقاليد لطخ سمعتها كما أنه مستقطع للحب
بعكس أي رجل, فإذا كان الحب هو كل حياة
المرأة فهو بعض حياة الرجل, ذلك أن
أعباء الحياة ومسئولياتها الجادة تحتل
جانبا كبيرا من فكر الرجل واهتماماته,
بينما نري ذلك المجنون قيس بن الملوح
متفرغا لحب ليلي كل الوقت, حتي إنه كان
يحتاج ـ في كل24 ساعة ـ إلي أوفر تايم
يحبها فيه كمان وكمان, الأمر الذي
يرجح معه أن اسمه قد وصل إلينا محرفا,
وأن اسمه الحقيقي قيس بن الملووح,
والملووح فيه هو دماغه.فقيس إشاعة
تاريخية صدقها الناس, وأعتقد أن
المسئول أو أحد المسئولين عن ترويج هذه
الإشاعة هو الموسيقار الكبير محمد
عبدالوهاب, فبصوته أخذ يجمل لنا هذه
الإشاعة, وبموسيقاه زوقها وزينها,
فانبهرنا بقيس متقمصا فن عبدالوهاب.
ما الذي يعجب عبدالوهاب في
قيس؟
قال لي عبدالوهاب: فعلا أنا معجب
بقيس كفنان لا كعاشق, فالحب عند قيس لم
يكن غاية, وإنما وسيلة ينفعل بها,
يحترق, يتمزق لينتج فنا, والفنان
الأصيل هو الذي يحب فنه إلي درجة التفاني
فيه!..
وجهة نظر وجيهة من عبدالوهاب ولكنها
قابلة للمناقشة, فكل تصرفات قيس من
لطم وبكاء وصويت تدل بوضوح علي أنه رجل
مريض بحب التعذيب, مصاب بماسوشية حادة,
ليلي تقول له بفرحة: قيس ابن عمي عندنا
فيصرخ, تقول له: قد تحملت في الهوي
فوق مايحمل البشر, فيلطم, تقول له
أحبك, فيقلبها مناحة, فلا مشكلة له
مع ليلي إذن لأن ليلي تحبه, المشكلة مع
نفسه هو, مع مرضه وغباوته, وهو غبي
لأنه لم يحاول حل مشكلته مع عمه ـ أبيها ـ
وهو لم يحاول حل المشكلة مع عمه لأنه يبحث
عن مشكلة يعيش فيها, يبحث عن جنازة
يشبع فيها لطم, فهو نكدي ابن نكدي
يتلذذ بتعذيب نفسه, ولو كان تزوج من
ليلي لكان أسعد خلق الله وهي تضربه
بالشبشب علي دماغه, فهذا يتيح له فرصة
ذهبية للمناحة.
وقد يقال إن الذي أحب ليلي حبا حقيقيا هو
ورد زوجها وليس قيسا, فإن ورد قد يبدو
مثلا رائعا من أمثلة التضحية في الحب,
إذ تزوجها بعدما فضحها قيس بأشعاره
الغزلية فيها حتي يدفع عنها كلام الناس
وهو تزوجها ولم يمسسها أبدا احتراما منه
لحبها لقيس, وهو من فرط احترامه لهذا
الحب كان يترك قيسا جالسا مع ليلي قائلا
لقيس: أنت حبيب القلب والزوج أنا!..
بالذمة ده كلام؟
هل هذه تضحية ـ كما يصورها البعض ـ أم
أنها لون غريب من ألوان العك الزوجي؟..
إن التضحية لها حدودها المقبولة
والمعقولة, فالحب بمعناه العام هو
مشاعر عريضة تحتوي الناس جميعا, أما
حب الجنسين فهو أناني بطبيعته وفطرته,
لا يحتمل تدخل رجل آخر اللهم إلا إذا كان
من ذوي الدم البارد أو من فصيلة التيوس,
ورجل يترك زوجته مع حبيبها قائلا: أنت
حبيب القلب والزوج أنا, لا يمكن أن
يكون رجل تضحية, بل هو رجل ضحية من ذلك
النوع الذي اعتدنا ذبحه في عيد الأضحي,
فالذي أسماه ورد ظلمه, وإذا كان لابد
من تسميته بأحد أسماء النباتات فأعتقد أن
الاسم المناسب له هو بامية.
فقصة قيس وليلي هي مثل رائع لما يمكن أن
يفعله الفن والفنان, فالقصة سخيفة,
سخيفة في واقعها, بطلها واحد ـ مجنون ـ
ومريض, ـ وبنت عندها نرجسية وزوج ضاعت
منه رجولة الرجال, ولكن الفن حولها
الي أكذوبة رائعة الجمال, فمن هذا
الفسيخ صنع شوقي الشربات بقدرة الفنان
الخلاق وبراعته في تجميل الواقع, فوضع
القصة في إطار رومانسي مثير, وخلق من
قيس عاشقا يستهوينا وهو يضع علي لسانه
أرق الكلام وأحلاه, وخلق من بامية ـ
أقصد ورد ـ مثلا رائعا ونبيلا للتضحية,
وحول القصة كلها الي عالم وردي يتغني به
العشاق في كل زمان, ثم جاء محمد عبد
الوهاب ليضفي بفنه مزيدا من الجمال علي
الأكذوبة, وأصبح صوت قيس في أذهاننا
هو أحلي صوت لرجل!..
وكما اقترنت صورة قيس زمان في أذهان
الناس بصورة الفنان أحمد علام ـ أجمل شاب
في عصره ـ اقترنت صورة قيس بعد غناء
أوبريت مجنون ليلي بصورة محمد عبد الوهاب
روميو زمانه, وهكذا صنع الفن والفنان
صورة مزيفة وجميلة لذلك المعتوه الذي كان
يهيم علي وجهه في الصحاري بذقن طولها نصف
متر وثياب لا تختلف كثيرا عن ثياب رواد
قهوة المجاذيب!..
***
هذه الصورة الجميلة المزيفة هي التي قد
تدفع بعض القارئات الي استنكار رأيي في
قيس.
وفي محاولة لإقناعكن ـ سيداتي آنساتي ـ
خسارة الغضب من أجله, فلا يمكن أن يكون
هذا الإنسان الضعيف المتهافت رمزا للرجل
القوي المعبود الذي يستهوي المرأة,
فلا هو أدونيس فاتن النساء الذي عشقته
أفروديت لوسامته وقوته, ولا هو عنترة
العبسي الفارس العربي الأسمر الذي كان
يتفجر قوة ورجولة وأحب عبلة بكل كبرياء
رجولته وشموخها دون أن يذرف دمعة واحدة
رغم ما عاناه في حبها من عذاب.
فلماذا الغضب من أجل قيس وهو
رمز للضعف والخيبة القوية؟..
يجوز ـ سيداتي آنساتي ـ أن قيسا يمثل
رمزا عزيزا لبعض النساء, فهناك المرأة
التي لا تكتمل سعادتها إلا برجلين,
رجل تمشي هي خلفه, ورجل يمشي خلفها,
رجل تحبه, ورجل يرضي كبرياء أنوثتها
بالبكاء والنواح, رجل قوي يتسلط عليها
ويسيطر, ورجل ضعيف وخيبة يطلب القرب
منها باللطم والدموع, واحد تقول له
أحبك, وواحد تقول له إجري إلعب بعيد!
وهي لا تعني ما تقول, فهي سعيدة به في
الواقع, سعيدة بغباوته, سعيدة
بمذلته, فهو بمذلته يمنحها الإحساس
بعزة أنوثتها,وقيس هو رمز لهذا العاشق
المغلوب علي أمره, فهو لا يمل البكاء
واللطم والصويت, وهو لا يمل من ترديد
كلمة: أحبك, وهو لا يكف عن حديث
الهيام والغرام, وهنا يبدو قيس كرجل
عظيم الميزة, فهو رمز مستحب بالنسبة
لكل زوجة أصيب زوجها بالخرس المنزلي,
فهي تتمني أن يرمي زوجها الجريدة التي
يدس فيها وجهه, وأن يخلع تلك التكشيرة
من ملامحه, وأن ينظر إليها في لوعة
واشتياق, كما كان ينظر قيس الي ليلي,
وأن يقول لها فيفي بجانبي كل شيء إذن حضر,
وأن ينطلق في كلام حلو ولذيذ لا نهاية له,
وأن يهيم علي وجهه في البيت إذا خرجت
للخياطة, وأن يمضي خلفها ـ إذا عادت ـ
من غرفة الي غرفة ومن الصالة الي المطبخ,
ولسانه مشبوك بكلمة أحبك...
***
ويبقي سؤال: إذا كان قيس
علي هذه الصفات من العته والجنون
والغباوة... فكيف أحبته ليلي؟
للرد علي هذا نقول: إن دوافع الحب
تختلف. فهناك الفتاة التي تحب فتاها
لأن أخلاقه عالية, وهناك التي تحب
فتاها لأن عمارته عالية, وأحيانا
تتدخل المرسيدس والبويك لتجعل الحب
صادقا وعظيما..
ولايمكن بالطبع القول بأن قيس كان عنده
مرسيدس أو ثندبيرد. الثابت أنه كان
عنده مركوب في رجله عامل20 ألف كيلو
مشيا في الصحراء, وهنا قد يتبادر إلي
الذهن أن ليلي أحبته لذاته وهذا غير صحيح.
الصحيح أن ليلي أحبت فيه تمجيده لجمالها
فقد كان قيس هو أول محطة إذاعة في التاريخ
إذ كان يسرح في طول البلاد وعرضها يروي عن
ليلي ومفاتنها حتي أصبحت ليلي في زمانها
أشهر من ليلي مراد, وإذا كان أبوها
اعتبر هذا فضيحة فمن وجهة نظر ليلي
المسألة عكسية, فما فعله قيس من
التشبيب بها جعلها تزهو وتتيه بأنوثتها
وجمالها, قيس هو الذي صنع منها بنتا
مرموقة الإسم ومشهورة في زمن لم يكن فيه
سينما ولا تليفزيون, فما أغناها عن
شهرة السينما والتليفزيون وعندها محطة
إذاعة تسبح بمفاتنها وتذكر اسمها ليل
نهار, ففي كل مكان كان المجنون يتوقف
ليقول: هنا محطة إذاعة قيس.. سيداتي
سادتي إليكم هذه القصيدة عن ليلي بنت عمي,
ثم يلقي القصيدة بعد حذف اللحن المميز:
بكاؤه.
ولاشك أن ليلي قد سعدت بهذا المجد وأشبعت
بقصائد قيس كل ميولها النرجسية, وقد
بلغ من خبثها أنها كانت تستثيره ليقول
فيها المزيد من الشعر إذ كانت تقول له من
وقت لآخر: إنت مابتحبنيش, والدليل
علي ذلك شعر قيس الذي يقول فيه:
وتزعم ليلي أنني لا أحبها
........................ بلي والليالي العشر والشفع
والوتر
بلي والذي ناجي من الطور عبده
........................ بلي والذي لايعلم الغيب
غيره
بقدرته تجري المراكب في البحر
.. فشيء طبيعي بعد هذا كله أن تحب ليلي
في قيس تمجيده المستمر لجمالها وأنوثتها,
وأن تقول له من وقت لآخر: إنت
مابتحبنيش فيقول لها: نقول كمان..
فأنا أختلف مع الذين يقولون إن ليلي
العامرية كانت بنتا بريئة كالقطة
المغمضة, أو كانت كالبنت البريئة
المظلومة في أفلامنا إياها, فالأرجح ـ
في تصوري ـ أن ملامح وجهها كانت خالية من
كل براءة, زاخرة بالدهاء والمكر
والتسلط وحب السيطرة, فقد وضح بعد
زواجها من الأستاذ بامية ـ ورد ـ أنها ست
قادرة وأن وردا أصبح شخشيخة في يدها,
وليس أدل علي دهائها القادر من أنها
تسلطت علي ورد إلي حد أن مواعيدها
الغرامية مع قيس كانت تتم في قلب بيت
الزوجية, ولا أحد يدري علي وجه
التحديد كيف روضت مدام ورد زوجها علي هذه
الخيبة التقيلة في بداية الزواج, يجوز
أنها أقنعته بفوائد رياضة المشي
الانفرادي خمس ساعات في اليوم تقضيها مع
قيس, علي أي حال لاتهم البداية, فقد
مضت قصة هذا الثلاثي المرح ـ ليلي وقيس
وورد ـ لتقول لنا: إن هذا الورد كان
يترك البيت من تلقاء نفسه أول مايشرف قيس
البيت!
ومهما قيل: من أن ورد كان يعشق ليلي
عشقا جنونيا, ومهما قيل: من أنه سمح
لزوجته باللقاءات الغرامية في قلب بيته
تقديسا منه لحب المجنون لها, فإن هذا
التصرف من جانب ورد لاتفسير له إلا أنه
رجل مقهور من زوجته, ومضروب علي دماغه
بالشبشب, أو رجل أهبل استطاعت هي أن
تقنعه بهذا العك.
وقبل أن تصبح ليلي مدام ورد, كان قيس
يتردد علي بيت عمه ـ والدها ـ ليراها
للحظات منتحلا الحجج والمعاذير لحضوره
لأن عمه كان دمه حامي وراجل عنده نخوة,
وفي هذه التماحيك التي كان يلجأ إليها
قيس يقول شوقي علي لسانه:
كم جئت ليلي بأسباب ملفقة
........................ ما كان أكثر أسبابي وعلاتي
فإذا كانت لقاءاته بليلي ـ بعد
الزواج ـ قد أصبحت سهلة وميسورة, وآخر
سبهللة وفي قلب بيت الزوجية, فإن هذا
يوضح لنا كيف كان أبوها أبو دم حامي
حاكمها وشاكمها, وكيف تسلطت بعد ذلك
بدهائها ومكرها علي ورد حتي حولته إلي
معزة.
ثم إنه واضح جدا من واقع حكاية ليلي أنها
كانت تتسم بروح الاستهتار واللامبالاة,
ولو عاشت في عصرنا لرأيناها تمشي
بالميكروجيب في شوارع القاهرة, فهي من
ذلك الطراز الذي يميل إلي إثارة اهتمام
الناس به والحديث عنه, فقد فضحها قيس
وجعل سمعتها مضغة في الأفواه, ومع ذلك
ـ ومن واقع قصتها ـ لانري منها كلمة عتاب
أو توبيخ لقيس, فهي سعيدة بالفضيحة
والجرسة, وهي تشجعه علي ذلك مدفوعة
بميولها الاستعراضية الحادة, مزهوة
بما يردده المجنون عن طعامتها وحلاوتها,
ثم نراها في زواجها أشد استهتارا, فهي
في قلب البيت مع قيس, وورد قاعد علي
باب البيت يقزقز لب..
غير أنني ـ بعد هذا كله ـ كثيرا ما أشك في
أن قيس كان مجنونا, بل كان في منتهي
اللؤم, إذ ساق الهبالة علي الشيطنة,
وهرب من الزواج بليلي..
|
| |
|